الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا **
وفيه طرفان الطرف الأول في كيفية استخراج جهات البلدان إذا كنت في بلد وأردت أن تعرف جهة بلد آخر عن البلد الذي أنت فيه فالذي أطلقه كثير من المصنفين أنك تعرف طول البلد الذي أنت فيه وعرضه وطول البلد الأخر وعرضه وتقابل بين الطولين وبين العرضين فإن كان ذلك البلد أعرض من بلدك مع مساواته له في الطول فهو عنك في جهة الجنوب وإن كان أطول من بلدك مع مساواته له في العرض فهو عنك في جهة الشرق وإن كان أقل طولاً مع مساواته في العرض فهو عنك في جهة الغرب. وإن كان أطول وأعرض من بلدك فهو عنك بين الشرق والشمال. وإن كان أقل طولاً وعرضاً فهو عنك بين المغرب والجنوب. وإن كان أقل طولاً وأكثر عرضاً فهو عنك بين الجنوب والشمال. وإن كان أكثر طولاً وأقل عرضاً فهو عنك بين الشرق والجنوب. والذي ذكره المحققون من علماء الهيئة أن البلد إذا كان أطول من بلدك مع مساواته له في العرض يكون عنك في جهة الشرق بميلة إلى الشمال وإذا كان أقل طولاً مع مساواته له في العرض يكون في جهة الغرب بميلة إلى الشمال أيضاً. وإذا كان أقل طولاً وعرضاً يكون بين المغرب والجنوب على ما تقدم إلا أن يقل بينهما بأن يكون أقل من درجة فإنه يحتمل أن يكون كذلك وأن يكون على وسط المغرب وإذا كان أقل طولاً وأكثر عرضاً فإنه يكون بين المشرق والمغرب على ما تقدم إلا أن يقل بينهما فيحتمل أن يكون كذلك وأن يكون على وسط المشرق. الطرف الثاني في معرفة الأبعاد الواقعة بين البلدان قد تقدم أن الأطول والعروض في الأمكنة والبلدان تعتبر بالدرج والدقائق وأن الدرجة مقسومة بستين دقيقة ثم الذي حققه القدماء كبطليموس صاحب المجسطي وغيره تقدير الدرجة بستة وستين ميلاً وثلثي ميل وبه أخذ أكثر المتأخرين وعليه العمل وما وقع لأصحاب الرصد المأموني مما يخالف ذلك بنقص عشر درج مما لا تعويل عليه. وقد نقل علاء الدين بن الشاطر من المتأخرين في زيجه عن القدماء أنهم قدروا الدرجة بالتقريب بعشرين فرسخاً وبستين ميلاً وبمائتي ألفٍ وأربعين ألف ذراع وبخمسة بردٍ وبمسير يومين. وقدر الشافعي رضي الله عنه ذلك بسير يومين بالأيام المعتدلة دون لياليهما وقدر السير بالسير المعتدل وتقدير الدرجة كما بين الفسطاط ودمياط فإن عرض دمياط يزيد على عرض الفسطاط بدرجة وكسر يسير على ما سيأتي ذكره. فإن أردت أن تعرف كم بين البلد الذي أنت فيه وبين بلد آخر الخط المستقيم فلك حالتان: الحالة الأولى - أن يكون ذلك البلد على سمت بلدك الذي أنت فيه في الطول أو العرض فانظر كم درجة بينهما بالزيادة والنقص فاضربه في ست وستين وهو ما لكل درجة من الأميال فما خرج من الضرب فهو بعد ما بينهما من الأميال على الخط المستقيم فاعتبره بما شئت من المراحل والفراسخ والبرد على ما تقدم بيانه. الحالة الثانية - إلا يكون ذلك البلد على سمت بلدك الذي أنت فيه فطريقك أن تقابل بين عرض بلدك وطوله وبينعرض البلد الأخر وطوله وتنظر كم فضل ما بين الطولين وبين العرضين وهو ما يزيده أحد الطولين أو أحد العرضين على الأخر فتضرب كلاً من فضل الطولين وفضل العرضين في مثله وتجمع الحاصل من الضربين فما كان خذ جذره وهو القدر الذي إذا ضربته في مثله حصل عنه ذلك العدد فما بلغ مقدار ما بين بلدك والبلد الأخر من الدرج فاضربه في ست وستين وثلثين على ما تقدم فما بلغ فهو أميال فاعتبره بما شئت من المراحل والفراسخ والبرد عل ما تقدم. مثال ذلك - أن الفسطاط طوله خمس وخمسون درجة وعرضه ثلاثون درجة ودمشق طولها ستون درجة وعرضها ثلاث وثلاثون درجة ونصف درجة ففضل ما بين طوليهما خمس درج وفضل ما بين عرضيهما ثلاث درج ونصف درجة فتضرب فضل ما بين الطولين وهو خمس درج في مثله يبلغ خمساً وعشرين وتضرب فضل ما بين العرضين وهو ثلاث ونصف في مثله يبلغ اثني عشر وربعاً فتجمع ما حصل من الضربين وهو خمس وعشرون واثنا عشر وربع ويكون سبعاً وثلاثين وربعاً فخذ جذرها يكون ستاً ونصف سدسٍ تقريباً وهو ما بين الفسطاط ودمشق من الدرج فاضربه في ست وستين وثلثين وهي ما للدرجة الواحدة من الأميال يكن أربعمائة وخمسة أميال وثلث سدس ميلٍ فإذا اعتبرت كل أربعة وعشرين ميلاً بمرحلة على ما تقدم كانت سبع عشرة مرحلةً تقريباً وهو القدر الذي بين الفسطاط ودمشق على الخط المستقيم. أما الطرق المسولكة إلى البلدان على التعاريج بسبب البحار والجبال والأودية وغيرها فإنها وقد ذكر أبو الريحان البيروني في كتابه القانون: أن زيادة التعريج على الأستواء يكون بقدر الخمس تقريباً. فإذا كان بين البلدين أربعون ميلاً على الخط المستقيم كانت بحسب سير السائر خمسين ميلاً. قلت: وفيه نظر لطول بعض التعاريج على بعض في الزيادة بالبحار والجبال عن الخط المستقيم على ما هو مشاهد في الأسفار اللهم إلا أن يريد الغالب كما تقدم بين الفسطاط ودمشق فقد مر أن بينهما على الخط مستقيم سبع عشرة مرحلة بالتقريب فإذا أضيف إليها مثل خمسها وهو ثلاثة وخمسان كانت عشرين مرحلة وهو القدر المعتاد في سيرها بالسير المعتدل. واعلم أن طول البلدان وعروضها قد وقع في الكتب المصنفة فيها ككتاب الأطوال المنسوب للفرس ورسم المعمور المترجم للمأمون من اللغة اليونانية والزيجات وغير ذلك اختلاف كثير وتباين فاحش. وممن صرح بذكر ذلك أبو الريحان البيروني في كتابه القانون فقال عند ذكرها: ولم يتهيأ لي تصحيح جميعها وقد صححت ما أمكن منها. قال في تقويم البلدان: إلا أن معرفة ذلك بالتقريب خير من الجهل بالكلية.
وفيه فصلان والخلفاء من خلفاء بني أمية بالشام وخلفاء بني العباس بالعراق وخلفاء الفاطميين بمصر وخلفاء بني أمية بالأندلس أما الخلافة فسيأتي في المقالة الخامسة في الكلام على الولايات أن المراد بها خلافة النبي صلى الله عليه وسلم بعده في أمته ولذلك كان يقال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الراجح أنه لا يجوز أن يقال في الخليفة خليفة الله إلى تمام القول فيما سيأتي ذكره هناك إن شاء الله تعالى. وأما من وليها من الخلفاء فعلى أربع طبقات: الطبقة الأولى الخلفاء من الصحابة وأولهم: " أبو بكر الصديق رضي الله عنه " بويع بالخلافة في اليوم الذي مات فيه النبي صلى الله عليه وسلم على ما سيأتي ذكره في الكلام على البيعات من المقالة الخامسة إن شاء الله تعالى. وبقي حتى توفي لتسع ليال بقين من جمادى الأخرة سنة ثلاث عشرة من الهجرة ودفن مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة رضي الله عنها. وبويع بعده عمر بن الخطاب رضي الله عنه في اليوم الذي مات فيه أبو بكر رضي الله عنه بعد أن عهد له بالخلافة وتوفي يوم السبت سلخ ذي الحجة الحرام سنة ثلاث وعشرين بطعنة أبي لؤلؤة: غلام المغيرة بن شعبة ودفن مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه. وفي أيامه فتحت الأمصار: ففتحت دمشق على يد خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح وتبعها في الفتح سائر بلاد الشام ففتحت بيسان وطبرية وقيسارية وفلسطين وعسقلان وبعلبك وحمص وحلب وقنسرين وانطاكية وسار إلى بيت المقدس في خلال ذلك ففتحه صلحاً. وفتح من بلاد الجزيرة الفراتية: الرقة وحران والموصل ونصيبين وآمد والرها. وفتح من العراق: القادسية والمدائن على يد سعد بن أبي وقاصٍ وزال ملك الفرس وانهزم ملكهم يزدجرد إلى فرغانة من بلاد الترك. وفتحت أيضاً كور دجلة والأبلة على يد عتبة بن غزوان. وفتحت كور الأهواز على يد أبي موسى الأشعري. وفتحت نهاوند وإصطخر وأصبهان وتستر والسوس وأذربيجان وبعض أعمال خراسان. وفتحت مصر والأسكندرية وأنطابلس وهي برقة وطرابلس الغرب على يد عمرو بن العاص. وبويع بالخلافة بعده عثمان بن عفان رضي الله عنه لثلاث بقين من المحرم سنة أربع وعشرين وقتل بالمدينة لثمان عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وقيل يوم الأضحى وقيل غير ذلك. وبويع بالخلافة بعده علي كرم الله وجهه يوم قتل عثمان وقتل لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة أربعين من الهجرة بالعراق ودفن بالنجف على الصحيح المشهور. وبويع بالخلافة لابنه الحسن بالكوفة من العراق يوم قتل أبيه وسلم الأمر لمعاوية لخمس بقين من ربيع الأول سنة إحدى وأربعين وقيل في ربيع الأخر وقيل في جمادى الأولى ولحق بالمدينة فأقام الطبقة الثانية خلفاء بني أمية أولهم معاوية بن أبي سفيان كان أميراً على الشام في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه واستمر بها إلى أن سلم الحسن إليه الأمر فاستقل بالخلافة وبقي حتى توفي بدمشق مستهل رجب الفرد سنة ستين من الهجرة وقيل في النصف من رجب وهو أول من رتب أمور الملك في الأسلام. وقام بالأمر بعده ابنه يزيد بالعهد من أبيه وبويع له بعد وفاته في رجب سنة ستين وتوفي لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة أربع وستين. وقام بالأمر بعده ابنه معاوية وبويع له بالخلافة في النصف من شهر ربيع الأخر سنة أربع وستين فأقام بالخلافة أربعين يوماً وقيل ثلاثة أشهر وقيل عشرين يوماً. وقام بالأمر بعده مروان بن الحكم وبويع له بالخلافة بالجابية في رجب سنة أربع وستين ثم جددت له البيعة في ذي القعدة من السنة المذكورة وتوفي بالطاعون بدمشق في شهر رمضان سنة خمس وستين. وقام بالأمر بعده ابنه عبد الملك بالعهد من أبيه وبويع له بالخلافة في الثالث من شهر رمضان وقام بالأمر بعده ابنه الوليد بالعهد من أبيه وبويع له بالخلافة يوم موت أبيه وتوفي بدمشق في منتصف جمادى الأخرة سنة ست وتسعين. وقام بالأمر بعده أخوه سليمان بن عبد الملك وبويع له يوم موت أخيه الوليد وكان أبوه قد عهد أن يكون هو الخليفة بعد أخيه الوليد وتوفي بدابق لعشر خلون من صغفر سنة تسع وتسعين. وقام بالأمر بعده ابن عمه عمر بن عبد العزيز بعهد له وبويع له بالخلافة يوم موته وتوفي بخناصرة لخمس وقيل لست بقين من رجب سنة إحدى ومائة. وقام بالأمر بعده يزيد بن عبد الملك بن مروان بعهد من أخيه سليمان أن يكون له الأمر من بعد عمر بن عبد العزيز وقيل: بعهد من أبيه أن يكون له الأمر بعد أخيه سليمان ولكنه سلم لابن عمه عمر وبويع له يوم موت عمر وتوفي بجولان لخمس بقين من شعبان سنة خمس ومائة. وقام بالأمر بعده أخوه هشام بن عبد الملك بعهد من أخيه يزيد بويع له بالخلافة في يوم موته وتوفي بالرصافة لست خلون من ربيع الأول سنة خمس وعشرين ومائة. وقام بالأمر بعده الوليد بن يزيد بن عبد الملك بويع له بالخلافة لثلاث خلون من ربيع الأخر سنة خمس وعشرين ومائة وقيل لليلتين بقيتا من جمادى الأخرة سنة ست وعشرين. وقام بالأمر بعده ابنه يزيد المعروف بالناقص سمي بذلك لنقصه الجند ما كان زادهم يزيد بويع وقام بالأمر بعده أخوه إبراهيم بن الوليد بويع له بالخلافة بعد وفاة أخيه في ذي الحجة المذكور فمكث أربعة أشهر وقيل أربعين يوماً ثم خلع نفسه. وقام بالأمر بعده مروان بن محمد بن مروان بن الحكم الجعدي بتسليم إبراهيم بن الوليد الأمر إليه وفي أيامه ظهرت دعوة بني العباس وقصدته جيوشهم فهرب إلى مصر فأدرك وقتل بقرية يقال لها بوصير من الفيوم وبزواله زالت دولة بني أمية. الطبقة الثالثة خلفاء بني العباس بالعراق وأول من قام بالأمر منهم بعد خلفاء بني أمية السفاح وهو أبو العباس عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم بويع له بالخلافة بالكوفة لثلاث عشرة ليلة خلت من ربيع الأخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة وتوفي بالأنبار لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة. وقام بالأمر بعده أخوه المنصور أبو جعفر عبد الله بويع له بالخلافة يوم موت أخيه السفاح وتوفي بطريق مكة وهو محرم بالحج سنة ثمانٍ وخمسين ومائة ودفن بالحجون. وقام بالأمر بعده ابنه المهدي أبو عبد الله محمد بويع له بالخلافة يوم مات أبوه بطريق مكة وهو وقام بالأمر بعده ابنه الهادي أبو محمد موسى بويع له بعده أبيه يوم موته وهو غائب فسار إلى بغداد ودخلها بعد عشرين يوماً وتوفي لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة سبعين ومائة. وقام بالأمر بعده الرشيد أبو محمد هرون بن المهدي بويع له بالخلافة ليلة مات أخوه الهادي وتوفي ليلة السبت لثلاث خلون من جمادى الأخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة. وقام بالأمر بعده ابنه الأمين أبو عبد الله محمد ويقال أبو موسى ويقال أبو العباس بالعهد من أبيه هرون الرشيد وبويع له صبيحة الليلة التي توفي فيها أبوه الرشيد وقتل لخمس بقين من المحرم سنة ثمان تسعين ومائة. وقام بالأمر بعده أخوه المأمون أبو العباس ويقال أبو جعفر عبد الله بالعهد له من أبيه الرشيد أن يكون له الأمر بعد أخيه الأمين وبويع له بالخلافة يوم قتل أخيه الأمين ببغداد وهو غائب وبويع له البيعة العامة لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة وتوفي بأرض الروم لليلة بقيت من رجب وقيل لثمان خلون منه سنة ثماني عشرة ومائتين ودفن بطرسوس. وقام بالأمر بعده أخوه المعتصم بالله أبو إسحاق محمد بن هرون الرشيد بويع له بالخلافة يوم موت أخيه المأمون وهو يومئذ بطرسوس فسار إلى بغداد فدخلها مستهل رمضان سنة ثماني عشر ومائتين وتوفي بسامرا لثماني عشرة ليلة مضت من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين. وقام بالأمر بعده ابنه الواثق بالله أبو جعفر هرون بويع له بالخلافة يوم موت أبيه وتوفي بسر من رأى لستً بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وقام بالأمر بعده أخوه المتوكل على الله أبو الفضل جعفر بويع له بالخلافة يوم موت أخيه الواثق وقتل لثلاث خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين. وقام بالأمر بعده ابنه المستنصر بالله أبو جعفر محمد بويع له بالخلافة صبيحة قتل أبيه المتوكل وتوفي بسامرا لثلاث خلون من ربيع الأخر وقيل لخمس خلون من ربيع الأول سنة ثمان وأربعين ومائتين. وقام بالأمر بعده المستعين بالله أبو العباس أحمد بن المعتصم بالله المتقدم ذكره بويع له بالخلافة في اليوم الثاني من موت المستنصر وخلع نفسه لأربع خلون من ربيع الأخر سنة ثمان وأربعين ومائتين وجهز إلى واسط فقتل بها في آخر رمضان من السنة المذكورة. وقام بالأمر بعده المعتز بالله أبو عبد الله محمد وقيل أبو الزبير بن المتوكل على الله المتقدم ذكره بويع له ببغداد حين خلع المستعين نفسه وبايعه المستعين فيمن بايع وخلع لثلاث بقين من رجب سنة خمس وخمسين ومائتين ثم قتل بعد ذلك. وقام بالأمر بعده المهتدي بالله أبو عبد الله ويقال أبو جعفر محمد بن الواثق بالله المتقدم ذكره بويع له بالخلافة بعد ليلتين من خلع المعتز بالله وقتل لأربع عشرة ليلة خلت من رجب سنة ست وخمسين ومائتين وكان يقال هو في بني العباس مثل عمر بن عبد العزيز في بني أمية. وقام بالأمر بعده المعتمد على الله أبو العباس ويقال أبو جعفر أحمد بن جعفر المتوكل المتقدم ذكره بويع له بالخلافة يوم قتل المهتدي بالله وتوفي لإحدى عشر ليلة بقيت من رجب سنة تسع وسبعين ومائتين. وقام بالأمر بعده المعتضد بالله أبو العباس أحمد بن الموفق طلحة ابن جعفر المتوكل بويع له بالخلافة يوم قتل المعتمد على الله وتوفي ببغداد لسبع قيل لثمان بقين من شهر ربيع الأخر سنة تسع وثمانين ومائتين. وقام بالأمر بعده ابنه المكتفي بالله أبو محمد علي بويع له بالخلافة يوم موت أبيه المعتضد وهو غائب بالرقة وكتب إليه بذلك فأخذ البيعة على من عنده وسار إلى بغداد فدخلها لثمان خلون من جمادى الأولى من سنته وتوفي ببغداد لثلاث عشرة ليلة وقيل لثنتي عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين. وقام بالأمر بعده أخوه المقتدر بالله أبو الفضل جعفر بن المعتضد بالله المتقدم ذكره وخلع لعشر بقين من ربيع الأول سنة ست وتسعين ومائتين. وبويع المرتضى بالله أبو محمد عبد الله بن المعتز فأقام يوماً وليلة ثم اضطرب عليه الأمر فاختفى وعاد الأمر إلى المقتدر فظفر بابن المعتز فصادره ثم أخرج من دار السلطان ميتاً لليلتين خلتا من ربيع الأخر من السنة المذكورة ثم خلع المقتدر بالله نفسه وبويع بالخلافة أخوه القاهر بالله أبو منصور محمد بن المعتضد فأقام يومين ثم عاد الأمر إلى المقتدر بالله وبقي حتى قتل لثلاث خلون من شوال سنة عشرين وثلثمائة. وقام بالأمر بعده أخوه القاهر بالله المتقدم ذكره لليلتين بقيتا من شوال سنة عشرين وثلثمائة ثم خلع وسملت عيناه لست خلون من جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة. وقام بالأمر بعده ابن أخيه الراضي بالله أبو العباس أحمد بن المقتدر بالله المتقدم ذكره وتوفي لست عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلثمائة. وقام بالأمر بعده أخوه المتقي بالله أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر بالله المتقدم ذكره بويع له بالخلافة لعشر بقين من ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلثمائة وخلع وسملت عيناه لعشر بقين من صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة. وقام بالأمر بعده ابن عمه المستكفي بالله أبو القاسم عبد الله بن المكتفي بالله المتقدم ذكره بويع له بالخلافة يوم خلع المتقي بالله بمشاركته له ثم خلع وسملت عيناه في جمادى الأخرة سنة وقام بالأمر بعده ابن عمه المطيع لله أبو القاسم ويقال أبو العباس الفضل بن المقتدر بالله المتقدم ذكره بويع له بالخلافة يوم خلع المستكفي وخلع نفسه منها للعجز بالمرض في الثالث عشر من ذي القعدة سنة ثلاث وستين وثلثمائة. وولي الخلافة بعده ابنه الطئع لله أبو بكر عبد الكريم بويع له بالخلافة يوم خلع أبيه المطيع لله وقبض عليه لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة إحدى وثمانين وثلثمائة فخلع نفسه. وقام بالأمر بعده القادر بالله أبو العباس أحمد بن إسحاق بويع له بالخلافة يوم خلع الطائع وكان غائباً بالبطائح فأحضر وجددت له البيعة ببغداد في شهر رمضان من السنة المذكورة وتوفي حادي عشر ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة. وقام بالأمر بعده ابنه القائم بأمر الله أبو جعفر عبد الله بالعهد من أبيه وجددت له البيعة بعد موت أبيه توفي ثالث عشر شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة. وقام بالأمر بعده ابن ابنه المتقدم بأمر الله عبد الله بن ذخيرة الدين محمد بن القائم بأمر الله المتقدم ذكره وتوفي فجأة في الخامس والعشرين من المحرم سنة سبع وثمانين وأربعمائة. وقام بالأمر بعده ابنه المستظهر بالله أبو العباس أحمد بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه وتوفي سادس عشر ربيع الأخر سنة اثنتي عشرة وخمسمائة. وقام بالأمر بعده ابنه المسترشد بالله أبو منصور الفضل بويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه المستظهر وقتل في قتال الباطنية سابع عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمسمائة. وقام بالأمر بعده ابنه الراشد بالله أبو جعفر المنصور بالعهد من أبيه وجددت له البيعة يوم قتله وخلع في منتصف ذي القعدة سنة ثلاثين وخمسمائة. وقام بالأمر بعده المقتفي لأمر الله أبو عبد الله محمد بن المستظهر المتقدم ذكره بويع بالخلافة يوم خلع الراشد بالله وتوفي ثاني ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة. وقام بالأمر بعده ابنه المستنجد بالله أبو المظفر يوسف بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه المقتفي وتوفي تاسع ربيع الأخر سنة ست وستين وخمسمائة. وقام بالأمر بعده ابنه المستضيء بالله أبو محمد الحسن بويع له بالخلافة يوم وفاة أبيه المستنجد من أقاربه بيعة خاصة وفي عشره بيعةً عامة وتوفي ثاني ذي القعدة سنة خمس وسبعين وخمسمائة. وقام بالأمر بعده ابنه الناصر لدين الله أبو العباس أحمد بويع له بالخلافة يوم موت أبيه المستضيء وتوفي أول شوال سنة اثنتين وعشرين وستمائة. وقام بالأمر بعده ابنه الظاهر بأمر الله أبو نصر محمد بويع له بالخلافة يوم موت أبيه الظاهر وقام بالأمر بعده ابنه المستعصم بالله أبو أحمد عبد الله بويع له بالخلافة يوم موت أبيه المستنصر بالله وقتله هولاكو ملك التتار في العشرين من المحرم سنة ست وخمسين وستمائة. وبقتله انقرضت الخلافة العباسية من بغداد وهو الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس ببغداد إذا عدت خلافة ابن المعتز وحسبت خلافة القاهر أولاً وثانياً خلافة واحداً. الطبقة الرابعة خلفاء بني العباس بالديار المصرية من بقايا بني العباس وأول من قام بأمر الخلافة بها المستنصر بالله أبو القاسم أحمد بن الظاهر بالله أبي نصر محمد المتقدم ذكره وذلك أنه لما قتل التتر المستعصم المتقدم ذكره وبقيت الخلافة شاغرةً نحواً من ثلاث سنين ونصف ثم قدم جماعة من عرب الحجاز إلى مصر في رجب سنة تسع وخمسين وستمائة أيام الظاهر بيبرس ومعهم المستنصر المذكور وذكروا أنه خرج من دار الخلافة ببغداد لما ملكها التتر فعقد له الملك الظاهر مجلساً حضره جماعة من العلماء منهم الشيخ عز الدين بن عبد السلام شيخ الشافعية وقاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأعز الشافعي وهو يومئذ قاض بالديار المصرية بمفرده وشهد أولئك العرب بنسبه ثم شهد جماعة من الشهود على شهادتهم يحكم الأستفاضة وأثبت ابن بنت الأعز نسبه ثم بايعه الملك الظاهر بالخلافة وأهل الحل والعقد واهتم الملك الظاهر بأمره واستخدم له عسكراً عظيماً وتوجه الملك الظاهر إلى الشام وهو صحبته فجهزه من هناك بعسكره إلى بغداد طمعاً أن يستولي عليها وينتزعها من التتار فخرج إليه التتار قبل أن يصل بغداد فقتلوه وقتلوا غالب عسكره في العشر الأول من المحرم سنة ستين وستمائة فكانت خلافته دون السنة وهو أول خليفة لقب بلقب خليفة قبله وكانوا قبل ذلك يلقبون بألقاب مرتجلة. وقام بالأمر بعده الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بن حسين بن أبي بكر ابن الأمير أبي علي القبي ابن الأمير حسن بن الراشد بالله أبي جعفر المنصور المتقدم ذكره في الخلفاء ببغداد. قدم مصر سنة تسع وخمسين وستمائة وهو ابن خمس عشرة سنة في سلطنة الظاهر بيبرس وقيل أن الظاهر بعث من أحضره إليه من بغداد وجلس له مجلساً عاماً أثبت فيه نسبه وبايعه بالخلافة في سنة ست وستين وستمائة. وأشركه معه في الدعاء في الخطبة على المنابر إلا أنه منعه التصرف والدخول والخروج. ولم يزل كذلك إلى أن ولي السلطنة الملك الأشرف خليل بن المنصور قلاوون فأسكنه بالكبش بخط الجامع الطولوني فكان يخطب أيام الجمعة في جامع القلعة ويصلي ولم يطلق تصرفه إلى أن تسلطن المنصور لاجين فأباح له التصرف حيث شاء وأركبه معه في الميادين وتوفي في شهور سنة إحدى وقام بالأمر بعده ابنه المستكفي بالله أبو الربيع سليمان بالعهد من أبيه الحاكم وبويع له بالخلافة يوم موت أبيه واستقر على ما كان عليه أبوه من الركوب والنزول وركوب الميادين مع السلطان إلى أن أعيد السلطان الملك الناصر محمد ابن قلاوون إلى السلطنة المرة الثانية بعد خلع الملك المظفر بيبرس الجاشنكير في شهور سنة تسع وسبعمائة فحصل عند السلطان منه وحشة فجهزه إلى قوصٍ ليقيم بها وبقي بقوص حتى توفي في سنة أربعين وسبعمائة. وولي الخلافة بعده ابنه المستعصم بالله أبو العباس أحمد بعهد من أبيه المستكفي بأربعين شاهداً بمدينة قوص ودعي له على المنابر في العشر الأخير من شوال سنة أربعين وسبعمائة. ثم خلعه الناصر محمد بن قلاوون وبايع بالخلافة الواثق بالله أبا إسحاق إبراهيم بن الحاكم بأمر الله المتقدم ذكره وأمر بأن يدعى له على المنابر وتحمل له راية الخلافة فجرى الأمر على ذلك. وكان قد هم بمبايعته بعد موت المستكفي فلم يتم له. فلما توفي الملك الناصر في العشرين من ذي الحجة سنة إحدى وأربعين وسبعمائة أعيد المستعصم بالله أحمد المتقدم ذكره إلى الخلافة بعد خلع الواثق إبراهيم وبقي حتى توفي رابع شعبان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. ثم ولي الخلافة بعده أخوه المعتضد بالله أبو الفتح أبو بكر بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان سابع عشر شعبان سنة ثمان وأربعين وسبعمائة وتوفي عاشر جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وولي الخلافة بعده ابنه المتوكل على الله أبو عبد الله محمد بن المعتضد بالله المتقدم ذكره بالعهد من أبيه المعتضد واستقر له الأمر بعد وفاة أبيه يوم الخميس ثاني عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وستين وسبعمائة وبقي حتى خلعه الأمير أيبك أتابك العساكر في سلطنة الملك المنصور علي بن الأشرف شعبان بن حسين. وولي الخلافة مكانه المستعصم بالله أبو يحيى زكريا بن الواثق إبراهيم المتقدم ذكره فأقام في الخلافة دون ثلاثة أشهر. ثم أعيد المتوكل على الله محمد بن أبي بكر إلى الخلافة ثانياً في أواخر المحرم أو أوائل صفر سنة تسع وسبعين وسبعمائة واستمر حتى قبض عليه الظاهر برقوق واعتقله بقلعة الجبل في مستهل شهر رجب سنة خمس وثمانين وسبعمائة. وولي الخلافة مكانه الواثق بالله أبو حفص عمر بن الواثق بالله إبراهيم المتقدم ذكره فبقي حتى توفي في العشر الأول من شوال سنة ثمان وثمانين وسبعمائة فأعاد الظاهر برقوق المستعصم باله زكريا المتقدم ذكره ثانياً إلى الخلافة والمتوكل على الله في الأعتقال والناس لا يرون في كل ذلك الخليفة غيره. ثم عن للملك الظاهر برقوق بعد ذلك فأطلق المتوكل على الله من الأعتقال وأكرمه وأحسن إليه في ثاني جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وبقي في الخلافة حتى توفي سابع عشري وولي الخلافة بعده ابنه أبو الفضل العباس ولقب المستعين بالله وبقي في الخلافة على سنن من تقدمه من الخلفاء العباسيين بالديار المصرية من قصور أمره على العهد إلى السلطان والدعاء له على المنابر قبل السلطان إلى أن قبض على الناصر فرج بن برقوق بالشام في الثاني عشر من ربيع الأول من سنة خمس عشرة وثمانمائة فاستقل بالأمر واستبد به وأجمع له أمر الخلافة: من ضرب اسمه على السكة في الدنانير والدراهم والدعاء له على المنابر بمفرده والعلامة على التقاليد والتواقيع والمكاتبات وغيرها وفوض أمر تدبير دولته للأمير شيخ وكتب له تفويضٌ في ورق عرضه ذراعٌ ونصفٌ بذارع البز يزيد عما كان يكتب فيه للسللاطين نصف ذارع بقلم مختصر الطومار. وكان المتولي لأمر كتابته المقر الشمسي محمد العمري عين أعيان كتاب الدست الشريف بالأبواب الشريفة السلطانية ونائب كاتب السر. وسيأتي ذلك الكلام على التواقيع في المقالة الخامسة إن شاء الله تعالى. وأما مقرات الخلفاء فهي أربع مقرات المقرة الأولى المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام والتحية والأكرام كانت مقرة الخلفاء الراشدين إلى حين انقراضهم وذلك أن مبدأ النبوة كان بمكة ثم هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأقام بها حتى توفي في الثالث عشر من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة. ثم كان بعده في لخلافة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي ثم الحسن إلى حين سلم الأمر لمعاوية وإنما كان مقام علي والحسن بالعراق زمن القتال بينهما وبين معاوية. المقرة الثانية الشأم وهي دار خلفاء بني أمية إلى حين انقراضهم قد تقدم أن معاوية كان أميراً على الشام قبل الخلافة ثم استقل بالأمر حين سلم إليه الحسن ويبقي في الشام وهو ومن بعده إلى حين انقراض خلافتهم فقتل مروان بن محمد على ما تقدم ذكره. وكانت دار إقامتهم دمشق وإن نزلوا غيرها فليس لإقامة. المقرة الثالثة العراق وهي دار خلفاء بني العباس وكان أول مبايعة السفاح به بالكوفة على ما تقدم ثم بنى بعد ذلك بالأنبار مدينةً وسماها الهاشمية ونزلها. فلما ولي أخوه أبو جعفر المنصور الخلافة بعده ابنه بنى بغداد وسكنها وصارت منزلاً لخلفاء بني العباس بعده إلى حين انقراض الخلافة منها بقتل التتر المستعصم آخر خلفائهم بها. المقرة الرابعة الديار المصرية وهي دار الخلافةالآن وقد تقدم سبب انتقال الخلافة إليها بعد انقراضها في بغداد في الكلام من ولي الخلافة من الخلفاء فأغنى عن إعادته هنا. وقد تقدم أن الحاكم بأمر الله ثاني خلفائهم بمصر أسكنه الأشرف خليل بن قلاوون بالكبش بخط الجامع الطولوني. أماالآن فاستقرت الخلافة بخط المشهد النفيسي بين مصر والقاهرة ولا أخلى الله هذه المملكة من آثار النبوة.
أما ما انطوت عليه من الممالك فاعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فتح مكة وما حول المدينة من القرى كخيبر ونحوها. وفتح خالد بصرى من الشام في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وهي أول فتح فتح بالشام ثم كانت الفتوح كثيرة في خلافة عمر رضي الله عنه ففتح بلاد الشام وكور دجلة والأبلة وكور الأهواز وإصطخر وأصبهخان والسوس وأذربيجان والري وجرجان وقزوين وزنجان ثم فتح في خلافة عثمان رضي الله عنه: كرمان وسجستان ونيسابور وفارس وطبرستان وهراة وبقية أعمال خراسان. وفتحت أرمينية وحران وكذلك فتحت أفريقية والأندلس وسد الأسلام ما بين المشرق والمغرب وكذلك الأموال تجبى من هذه الأقطار النائية والأمصار الشاسعة فتحمل إلى الخليفة وتوضع في بيت المال بعد تكفية الجيوش وما يجب صرفه من بيت المال. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أثناء خلافة بني العباس ما عدا الأندلس فإن بقايا خلفاء بني أمية استولوا عليه حتى يقال: إن الرشيد كان يستلقي على ظهره وينظر إلى السحابة مارة يقول: " اذهبي إلى حيث شئت يأتيني خراجك " ثم اضطرب أمر الخلافة بعد ذلك وتقاصر شأنها واستبد أكثر أهل الأعمال بعمله من خلافة الراضي على ما سيأتي ذكره في الكلام على ترتيب الخلافة فيما بعد إن شاء الله تعالى. وأما ترتيب الخلافة فله حالتان: الحالة الأولى ما كان عليه الحال في الزمن القديم حال الخلافة في الزمن القديم اعلم أن الخلافة لابتداء الأمر كانت جارية على ما ألف من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم: من خشونة العيش والقرب من الناس واطراح الخيلاء وأحوال الملوك مع ما فتح الله تعالى على خلفاء السلف من الأقاليم وجبى إليهم من الأموال التي لم يفز عظماء الملوك بجزء من أجزائها. وناهيك أنهم فتحوا عدةً من الممالك العظيمة التي كانت يضرب بها المثل في عظم قدرها وارتفاع شأن ملوكها من ممالك المشرق والمغرب حتى ذكر عظماء الملوك عند بعض السلف فقال: " إنما الملك الذي يأكل الشعير ويعس على رجليه بالليل ماشياً وقد فتحت له مشارق الأرض ومغاربها " يريد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن سلم الحسن رضي الله عنه الأمر لمعاوية وإلى ذلك الأشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " الخلافة في أمتي ثلاثون سنةً ثم ملكٌ بعد ذلك " فكان آخر الثلاثين خلافة الحسن. فلما سلم الحسن رضي الله عنه لمعاوية بعد وقوع الأختلاف وتباين الأراء اقتضى الحال في زمانه إقامة شعار الملك وإظهار أبهة الخلافة فأخذ في ترتيب أمور الخلافة على نظام الملك لما في ذلك من إرهاب العدو وإخافته. بل كان ذلك شأنه وهو أمير بالشام قبل أن يلي الخلافة حتى حكى صاحب العقد وغيره أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم الشام في خلافته وهو راكب على حمار ومعه عبد الرحمن بن عوف ومعاوية أميرٌ على الشام فخرج معاوية لملاقاته في موكب عظيم فلقيه في طريقه في خف من القوم فلم يشعر به وتعداه طالباً له ثم عرف ذلك فيما بعد فرجع وسلم على أمير المؤمنين عمر ومشى إلى جانبه فلم يلتفت إليه وطال به ذلك فقال له عبد الرحمن بن عوف: أتعبت الرجل يا أمير المؤمنين فالتفت إليه حينئذ وقال: أنت صاحب الموكبالآن مع ما يبلغني من وقوف ذوي الحاجات ببابك - فقال: يا أمير المؤمنين إنا بأرضٍ يكثر فيها جواسيس العدو فأحتاج أن أظهر لهم من أبهة الملك والسلطان ما يزعهم فإن أمرتني به ائتمرت وإن نهيتني عنه انتهيت - فقال: إن كان ما قلته حقاً فإنه لرأي أديبٍ وإن كان غير حق فإنه لخدعة أريب لا آمرك ولا أنهاك - فقال عبد الرحمن: لحسنٌ يا أمير المؤمنين ما صدر به هذا الفتى عما أوردته عنه فيه - فقال: لحسن مصادره موارده جشمناه ما جشمناه. فلما صارت الخلافة إليه زاد في حسن الترتيب وإظهار الأبهة وأخذ الخلفاء بعده في مضاعفة ذلك والأحتفال به حتى أمست الخلافة في أغي ما يكون من ترتيب الملك وفاقت في ذلك الأكاسرة والقياصرة بل اضمحل في جانب الخلافة سائر الممالك العظام وانطوى في ضمنها ممالك المشارق والمغارب خصوصاً في أوائل الدولة العباسية في زمن الرشيد ومن والأه. حتى يحكى أن صاحب عمورية من ملوك الروم كانت عنده شريفةٌ مأسورة في خلافة المعتصم فعذبها فصاحت وامعتصماه! فقال لها: " لا يأتي المعتصم لخلاصك إلى على أبلق. فبلغ ذلك المعتصم فنادى في عسكره بركوب الخيل البلق وخرج في مقدمة عسكره أربعة الأف أبلق وأتى عمورية فحاصرها وخلص الشريفة وقال: اشهدي لي عند جدك المصطفى صلى الله عليه وسلم أني جئت لخلاصك وفي مقدمة عسكري أربعة الأف أبلق. وقد حكى ابن الأثير في تاريخه: أنه لما وصلت رسل ملك الروم إلى بغداد في سنة خمس وثلثمائة في خلافة المقتدر رتب من العسكر في دار الخلافة مائة وستون ألفاً ما بين راكب وراجل ووقف بين يدي الخليفة سبعمائة حاجب وسبعة الأف خادم خصي: أربعة الأف بيض وثلاثة الأف سود ووقف الغلمان المجرية الذين هم بمثابة مماليك الطباقالآن بالباب بتمام الزينة والمناطق المحلاة وزينت دار الخلافة بأنواع الأسلحة وغرائب الزينة وغشيت جدرانها بالستور وفرشت أرضها بالبسط وكان عدة البسط اثنين وعشرين ألف بساط وعدة الستور المعلقة ثمانيةً وثلاثين ألف ستر منها اثنا عشر ألف ستر من الديباج المذهب وكان من جملة الزينة شجرة من الذهب والفضة بأغصانها وأوارقها وطيور الذهب على أغصانها وأغصانها تتمايل بحركات موضوعة والطيور تصفر بحركات مرتبة وألقبيت المراكب والدبادب في دجلة بأحسن زينة. وكان هناك مائة سبع مع مائة سباع إلى غير ذلك من الأحوال الملوكية التي يطول شرحها. هذا مع تقهقر الخلافة وانحطاط رتبتها يومئذ. ولم تزل الخلافة قائمةً على ترتيبٍ واحد في فلما ولي المتقي بالله تقاصر أمر الخلافة وتناقص وقنع الخلفاء من الخلافة بالدعاء على المنابر وضرب اسمهم على الدنانير والدراهم وربما خطب الواحد منهم بنفسه ومع ذلك كان الخليفة هو الذي يولي أرباب الوظائف من القضاة وغيرهم وتكتب عنه العهود والتقاليد وغيرها لا يشاركه في ذلك سلطان. وأما شعار الخلافة: فمنها الخاتم: والأصل فيه ما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: إن الملوك لا يقرأون كتاباً غير مختوم فاتخذ خاتماً من ورقٍ وجعل نقشه محمدٌ رسول الله " فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم لبسه أبو بكر بعده ثم لبسه عمر بعد أبي بكر ثم لبسه عثمان بعد عمر فوقع منه في بئر فلم يقدر عليه. واتخذ الخلفاء بعد ذلك خواتيم لكل خاتم نقشٌ يخصه وبقي الأمر على ذلك إلى انقراض الخلافة من بغداد. ومنها البردة وهي بردة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان الخليفة يلبسها في المواكب. قال ابن الأثير: وهي شملةٌ مخططةٌ وقيل كساء أسود مربع فيه صغرٌ وقد اختلف في وصولها إلى الخلفاء. فحكى الماوردي في الأحكام السلطانية عن أبان بن تغلب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان وهبها لكعب بن زهيرٍ حين امتدحه بقصيدته التي أولها: بانت سعاد فاشتراها منه معاوية. والذي ذكره غيره أن كعباً لم يسمح ببيعها لمعاوية وقال: لم أكن لأوثر بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً. فلما مات كعب اشتراها معاوية من ورثته بعشرة الأف درهم. وحكى الماوردي أيضاً عن حمزة بن ربيعة أن هذه البردة كان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها لأهل أيلة أماناً لهم فأخذها منهم عبد الله بن خالد بن أبي أوفى وهو عامل من قبل مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية وبعث بها إليه وكانت في خزانته حتى أخذت بعد قتله. وقيل اشتراها أبو العباس السفاح أول خلفاء بني العباس بثلثمائة دينار. ومنها القضيب: وهو عود كان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذه بيده. قال الماوردي: وهو من تركة النبي صلى الله عليه وسلم التي هي صدقة. قلت: وكان القضيب والبردة المتقدما الذكر عند خلفاء بني العباس ببغداد إلى أن انتزعهما السلطان سنجر السلجوقي من المسترشد بالله ثم أعادهما إلى المقتفي عند ولايته في سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. والذي يظهر أنها بقيت عندهم إلى انقضاء الخلافة من بغداد سنة ست وخمسين وستمائة فإن مقدار ما بينهما مائةٌ وإحدى وعشرون سنة وهي مدة قريبة ومنها ثياب الخلافة: وقد ذكر السلطان عماد الدين صاحب حماة في تاريخه في الكلام على ترجمة الملك السعيد إسماعيل أحد ملوك بني أيوب باليمن أنه كان به هودجٌ فادعى أنه من بني أمية ولبس ثياب الخلافة ثم قال: " وكان طول الكم يومئذ عشرين شبراً فيحتمل أنه أراد زمن بني أمية وأنه أراد زمن بني أيوب. ومنها اللون في الأعلام والخلع ونحوها. وكان شعار بني أمية من الألوان الخضرة فقد حكى صاحب حماة عن الملك السعيد إسماعيل المتقدم ذكره: أنه حين ادعى الخلافة وأنه من بني أمية لبس الخضرة وهذا صريح في أنه شعارهم. أما بنو العباس فشعارهم السواد وقد اختلف في سبب اختيارهم السواد فذكر القاضي الماوردي في كتابه الحاوي الكبير في الفقه: أن السبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم حنينٍ ويوم الفتح عقد لعمه العباس رضي الله عنه رايةً سوداء. وحكى أبو هلال العسكري في كتابه الأوائل: أن سبب ذلك أن مروان ابن محمد آخر خلفاء بني أمية حين أراد قتل إبراهيم بن محمد العباسي أول القائمين من بني العباس بطلب الخلافة قال لشيعته: لا يهولنكم قتلي فإذا تمكنتم من أمركم فاستخلفوا عليكم أبا العباس يعني السفاح فلما ومن غريب ما وقع مما يتعلق بذلك ما حكاه ابن سعيد في المغرب أن الظافر الفاطمي أحد خلفاء مصر لما قتله وزيره عباس بعث نساء الخليفة شعورهن طي الكتب إلى الصالح طلائع بن رزيك وهو يومئذ والٍ بمنية بني خصيبٍ فحضر إليهم وقد رفع تلك الشعور على الرماح وأقام الرايات السود إظهاراً للحرب على الظافر ودخل القاهرة على ذلك فكان ذلك في الفأل العجيب وهو أن مصر انتقلت إلى بني العباس بعد خمسة عشر سنة ورفعت راياتهم السود بها. وأما تولية الملوك من الخلفاء فكان الحال فيه مختلفاً رباعتبار السلطان بحضرة الخلافة وغيره فإن كان الذي يوليه الخليفة هو السلطان الذي بحضرة الخلافة كبني بويه وبني سلجوق وغيرهم فقد حكى ابن الأثير وغيره أن السلطان طغرلبك بن ميكائيل السلجوقي لما تقلد السلطنة القائم بأمر الله في سنة تسع وأربعين وأربعمائة جلس له الخليفة على كرسي ارتفاعه عن الأرض نحو سبعة أذرعٍ وعليه البردة ودخل عليه طغرلبك في جماعةٍ وأعيان بغداد حاضرون فقبل طغرلبك الأرض ويد الخليفة ثم جلس على كرسي نصب له ثم قال رئيس الرؤساء وزير الخليفة عن لسان الخليفة: " إن أمير المؤمنين قد ولاك جميع ما ولاه الله تعالى من بلاده ورد إليك أمر عباده فاتق الله فيما ولاك واعرف نعمته عليك " ثم خلع على طغرلبك سبع جبات سود بزيق واحد وعمامة سوداء وطوق بطوق من ذهب وسور بسوارين من ذهب وأعطى سيفاً بغلاف من ذهب ولقبه الخلفية وقريء عهده عليه فقبل الأرض ويد الخليفة ثانياً وانصرف وقد جهز له فرس من إصطبلات الخليفة بمركبٍ من ذهب مقندس فركب وانصرف إلى داره وبعث إلى الخليفة خمسين ألف دينار وخمسين مملوكاً من الترك بخيولهم وسلاحهم مع ثياب وغيرها. ولعل هذا كله كان ترتيبهم في لبس جميع ملوك الحضرة. وإن كان الذي يوليه الخليفة من ملوك النواحي البعيدة عن حضرة الخليفة كملوك مصر إذ ذاك ونحوهم جهز له التشريف من بغداد صحبة رسول من جهة الخليفة وهو جبّة أطلس أسود بطراز مذهبٍ وطوق من ذهب يجعل في عنقه وسواران من ذهب يجعلان في يده وسيفٌ قرابه ملبّس بالذهب وفرس بمركب من ذهب وعلمٌ أسود مكتوب عليه بالبياض اسم الخليفة ينشر على رأسه كما كان يبعث إلى السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب ثم أخيه العادل. فإذا وصل ذلك إلى سلطان تلك الناحية لبس الخلعة والعمامة وتقلد السيف وركب الفرس وسار في موكبه حتى يصل إلى محل ملكه. وربما جهز مع خلعة السلطان خلعٌ أخرى لولده أو وزيره أو أحدٍ من أقاربه بحسب ما يقتضيه الحال حينئذ. وآخر من وصلت إليه الخلعة والطوق والتقليد من ملوك بني أيوب من بغداد الناصر يوسف بن وأما الوظائف المعتبرة عندهم فعلى ضربين: الضرب الأوّل وظائف أرباب السيوف وهي عدّة وظائف منها الوزارة في بعض الأوقات دون بعض. وقد ذكر القضاعيّ وغيره أن أوّل من لقّب بالوزارة في الأسلام أبو سلمة حفص بن سليمان الخلال وزير أبي العبّاس السّفّاح أوّل خلفاء بني العبّاس ولم يكن ذلك قبله ثم جرى الأمر على ذلك في اتخاذ الخلفاء الوزراء إلى انقراض الخلافة ببغداد بقتل التتار المستعصم في سنة ست وخمسين وستمائة و وزيره يومئذ مؤيد الدين بن العلقميّ وقتله هولاكو ملك التتار بعد قتل المستعصم لممالأته على المستعصم مع التتار وهو آخر وزراء الخلافة ببغداد. ومنها الحجابة: وكان موضوعها عندهم حفظ باب الخليفة والأستئذان للداخلين عليه لا التّصدي للحكم في المظالم كما هوالآن. وقد ذكر القضاعيّ في تاريخ الخلائف ما يقتضي أن الخلفاء لم تزل تتخذ الحجّاب من لدن الصّدّيق رضي الله عنه فمن بعده خلا الحسن بن عليّ فإنه لم يكن له حاجب. ومنها ولاية المظالم: وموضوعها قود المتظالمين إلى التناصف بالرّهبة وزجر المتنازعين عن التجاحد بالهيبة كما قاله الماورديّ في الأحكام السلطانية وهي شبيهة بالحجوبيةالآن في هذا المعنى وكانت عندهم من أعلى الوظائف وأرفعها رتبة لا يتولاّها إلا ذوو الأقدار الجليلة والأخطار الحفيلة. ومنها النّقابة على ذوي الأنساب: كالطالبيين والعباسيين ومن في معناهم كما في نقابة الأشرافالآن بالديار المصرية وأعمالها وكانت لديهم من وظائف أرباب السيوف ولذلك استصحب هذا المعنى في نقيب الأشرافالآن فيكتب في ألقابه الأميريّ وإن كان من أرباب الأقلام على ما سيأتي ذلك في كتابة توقيعه إن شاء الله تعالى. الضرب الثاني وظائف أرباب الأقلام وهي نوعان: دينية وديوانية فأما الديوانية - فأجلّها الوزارة إذا كان الوزير صاحب قلم. وقد مرّ القول في ابتداء وزارة الخلفاء وانتهائها في الكلام على وزارة أرباب السيوف في الضرب الأوّل. وأما الدينية - فمنها القضاء وكانت ولاية القضاء عن الخليفة تارةً تكون عامّة لبغداد وأعمالها وتارة قاصرةً على بغداد أو أحد جانبيها. ومنها الحسبة وأمرها معروف. ومنها الولاية على المساجد والنظر في أمر الصلاة. ومن الوظائف الخارجة عن حضرة الخلافة لأرباب السيوف الأمارة على الجهاد والأمارة على الحج وغيرها. ومن الوظائف الخارجة عن الحضرة لأرباب الأقلام ولاية قضاء النواحي والحسبة بها إلى غير ذلك من ولايات زعماء الذمة وغيرهم. الحالة الثانية ما صار إليه الأمر بعد انتقال الخلافة إلى الديار المصرية انتقال الخلافة إلى الديار المصرية عند استيلاء التتار على بغداد لما بايع الملك الظاهر بيبرس البندقداريّ في سنة تسع وخمسين وستمائة المستنصر بن الظاهر أوّل الخلفاء بمصر على ما تقدم ذكره وكتب له عهد عنه بالسلطنة من إنشاء القاضي محي الدين بن عبد الظاهر وعمل له السلطان الدّهاليز والأت الخلافة ورتب له الجمدارية واستخدم له عسكراً عظيماً وجهزه إلى بغداد للاستيلاء عليها فقتله التتار على ما تقدم. ثم لما بايع الظاهر أيضاً الأمام الحاكم بأمر الله ثاني خلفائهم أيضاً في سنة تسع وخمسين وستمائة على ما تقدم ذكره بقي مدة ثم أشركه معه في الدعاء في الخطبة على المنابر في سنة ست ولم يزل كذلك إلى أن ولي السلطنة الملك الأشرف خليل ابن المنصور قلاوون فأطلق سبيله وأسكنه في الكبش على القرب من الجامع الطولوني وكان يخطب أيام الجمع بجامع القلعة إلى أن ولي السلطنة الملك المنصور حسام الدين لاجين فأباح له التصرف والركوب إلى حيث شاء وبقي الأمر على ذلك إلى أن ولي الخلافة المستعصم بالله أبو العباس أحمد بن المستكفي بالله أبي الربيع سليمان المرة الثانية بعد موت الملك الناصر محمد بن قلاوون ففوض إليه السلطان نظر المشهد النفيسي واستقر بأيدي الخلفاء إلىالآن. والذي استقر عليه حال الخلفاء بالديار المصرية أن الخليفة يفوض الأمور العامة إلى السلطان ويكتب له عنه عهدٌ بالسلطنة ويدعى له قبل السلطان على المنابر إلا في مصلى السلطان خاصة في جامع مصلاه بقلعة الجبل المحروسة ويستبد السلطان بما عدا ذلك: من الولاية والعزل وإقطاع الأقطاعات حتى للخليفة نفسه ويستأثر بالكتابة في جميع ذلك. قلت: ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن قبض على السلطان الملك الناصر فرج بن الظاهر برقوق بالشام في أوائل سنة خمس عشرة وثمانمائة على ما تقدم ذكره فاستقل الأمام المستعين بالله خليفة العصر بأمر الخلافة: من الكتابة على العهود ومناشير الأقطاعات والتقاليد والتواقيع والمكاتبات وغيرها وأفرد بالدعاء على المنابر وضرب اسمه على الدنانير والدراهم والطرز على ما تقدم ذكره في الكلام على ترتيب الخلفاء وهيئته في لبسه عند ركوبه المدينة في المواكب أو غيرها. فعمامته مدورة لطيفة عليها رفرفٌ من خلفه تقدير نصف ذراع في ثلث ذراع مرسل من أعلى عمامته إلى أسفلها وفوق ثيابه كامليةٌ ضيقة الكم مفرجة الذيل من خلف وتحتها قباء ضيق الكم. أما تقليده السلطان السلطنة فالذي رأيته في بعض التواريخ في عهد الأمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد بن أبي الربيع سليمان إلى السلطان الملك المنصور أبي بكر بن الملك الناصر محمد بن قلاوون بعد مبايعة الحاكم المذكور عند موت أبيه في سنة اثنتين وأربعين وسبعمائة: أنه طلع القضاة والأمراء إلى القلعة واجتمعوا بدار العدل وجلس الخليفة على الدرجة الثالثة من التخت وعليه خلعةٌ خضراء وعلى رأسه طرحة سوداء مرقومة بالبياض وخرج السلطان من القصر إلى الأيوان من باب السر على العادة فقام له الخليفة والقضاة والأمراء وجاء السلطان فجلس على الدرجة الأولى من التخت دون الخليفة ثم قام الخليفة فقرأ: ثم قرأ: وأخبرني من حضر تقليد السلطان الملك الناصر فرج بن الظاهر برقوق عن الأمام المتوكل على الله أبي الفتح محمد المشار إليه فيما تقدم: أنه حضر الخليفة وشيخ الأسلام سراج الدين البلقيني والقضاة الأربعة وأهل العلم وأمراء الدولة إلى مقعد بالأصطبلات السلطانية يعرف بالحراقة وجلس الخليفة في صدر المكان على مقعد مفروش له ثم أتى السلطان وهو يومئذ حدثٌ فجلس بين يديه وسأله شيخ الأسلام عن بلوغه الحلم فأجاب بالبلوغ فخطب الخليفة خطبة ثم خاطب السلطان بتفويض الأمر إليه على نحو ما تقدم ذكره ثم أتي الخليفة بخلعةٍ سوداء وعمامة سوداء موقومة فوقها طرحة سوداء مرقومة ثم جلس الخليفة في مكانه الذي كان جالساً فيه ونصب للسلطان كرسيٌ إلى جانب مقعد الخليفة فجلس عليه وجلس الأمراء والقضاة حوله على قدر منازلهم وقد استقرت جائزة تقليد السلطنة للخليفة ألف دينار مع أما حضوره بمجلس السلطان في عامة الأيام عند حضوره إلى السلطان لسلام أو مهم أو غير ذلك فقد أخبرني بعض جماعة الخليفة أن الأمام المتوكل المتقدم ذكره كان إذا حضر إلى مجلس السلطان الظاهر قام له وربما مشى إليه خطوات وجلس على طرف المقعد وأجلس الخليفة إلى جانبه.
|